الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الفخر: قوله تعالى: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} فيه وجوه:الأول: أنه بيّن بالآية الأولى أن تلك الأشياء التي سألوا عنها أن أبديت لهم ساءتهم ثم بين بهذه الآية أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، فكان حاصل الكلام أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، وإن أبديت لهم ساءتهم، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم.والوجه الثاني: في تأويل الآية أن السؤال على قسمين.أحدهما: السؤال عن شيء لم يجز ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه، فهذا السؤال منهى عنه بقوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.والنوع الثاني من السؤال: السؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فههنا السؤال واجب، وهو المراد بقوله: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} والفائدة في ذكر هذا القسم أنه لما منع في الآية الأولى من السؤال أوهم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه فذكر ذلك تمييزًا لهذا القسم عن ذلك القسم.فإن قيل قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} هذا الضمير عائد إلى الأشياء المذكورة في قوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} فكيف يعقل في {أَشْيَاء} بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعًا وجائزًا معًا.قلنا: الجواب عنه من وجهين:الأول: جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعًا قبل نزول القرآن بها ومأمورًا به بعد نزول القرآن بها، والثاني: أنهما وإن كانا نوعين مختلفين، إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسؤولًا عنه شيء واحد، فلهذا الوجه حسن اتحاد الضمير وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين.الوجه الثالث في تأويل الآية: إن قوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} دل على سؤالاتهم عن تلك الأشياء، فقوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} أي وإن تسألوا عن تلك السؤالات حين ينزل القرآن يبين لكم أن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا، والحاصل أن المراد من هذه الآية أنه يجب السؤال أولًا، وأنه هل يجوز السؤال عن كذا وكذا أم لا. اهـ..قال الثعلبي: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ} تسؤكم لأن القرآن إنما ينزل بإلزام فرض فيشق عليكم أو شيء كان حلالًا لكم. اهـ..قال ابن عطية: وقوله تعالى: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} قال ابن عباس: معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوء، كما قيل للذي قال أين أنا؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذٍ إن سألتم عن تفصيله وبيانه بين لكم وأبدى؟.قال القاضي أبو محمد: فالضمير في قوله: {عنها} عائد على نوعها لا على الأولى التي نهى عن السؤال عنها، وقال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وعفا من غير نسيان عن أشياء فلا تبحثوا عنها، وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوا وما حرم فاجتنبوا وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله عفاه، ثم يتلو هذه الآية.قال القاضي أبو محمد: ويحتمل قوله تعالى: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم عبء ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون علم ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار. اهـ..قال ابن عاشور: وجملة {وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبْدَ لكم} عطف على جملة {لا تسألوا}، وهي تفيد إباحة السؤال عنها على الجملة لقوله: {وإن تسألوا} فجعلهم مخيّرين في السؤال عن أمثالها، وأنّ ترك السؤال هو الأوْلى لهم، فالانتقال إلى الإذن رخصة وتوسعة، وجاء بـ {إنْ} للدلالة على أنّ الأولى ترك السؤال عنها لأنّ الأصل في «إنْ» أن تدلّ على أنّ الشرط نادر الوقوع أو مرغوب عن وقوعه.وقوله: {حين ينزّل القرآن} ظرف يجوز تعلّقه بفعل الشرط وهو {تسألوا}، ويجوز تعلّقه بفعل الجواب وهو {تُبدَ لكم}، وهو أظهر إذ الظاهر أنّ حين نزول القرآن لم يجعل وقتًا لإلقاء الأسئلة بل جعل وقتًا للجواب عن الأسئلة.وتقديمه على عامله للاهتمام، والمعنى أنّهم لا ينتظرون الجواب عمّا يسألون عنه إلاّ بعد نزول القرآن، لقوله تعالى: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب إلى قوله إن أتّبعُ إلاّ ما يوحى إليّ} [الأنعام: 50] فنبّههم الله بهذا على أنّ النبي يتلقّى الوحي من علاّم الغيوب.فمن سأل عن شيء فلينتظر الجواب بعد نزول القرآن، ومن سأل عند نزول القرآن حصل جوابه عقِب سؤاله.ووقتُ نزول القرآن يعرفه من يحضر منهم مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فإنّ له حالة خاصّة تعتري الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفها الناس، كما ورد في حديث يعلى بن أمية في حكم العمرة.ومما يدلّ لهذا ما وقع في حديث أنس من رواية ابن شهاب في «صحيح مسلم» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى لهم صلاة الظهر فلما سلّم قام على المنبر فذكر الساعة وذكر أنّ قبلها أمورًا عظامًا ثم قال: مَنْ أحبّ أن يسألني عن شيء فليسألني عنه فوالله لا تسألونني عن شيء إلاّ أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا.ثم قال: «لقد عرضت عليَّ الجنة والنار آنفًا في عُرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر» الحديث، فدلّ ذلك على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك الحينَ في حال نزول وحي عليه.وقد جاء في رواية موسى بن أنس عن أبيه أنس أنّه أنزل عليه حينئذٍ قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء} الآية.فتلك لا محالة ساعة نزول القرآن واتّصال الرسول عليه الصلاة والسلام بعالم الوحي. اهـ..قال الفخر: ثم قال تعالى: {عَفَا الله عَنْهَا} وفيه وجوه:الأول: عفا الله عما سلف من مسائلكم وإغضابكم للرسول بسببها، فلا تعودوا إلى مثلها.الثاني: أنه تعالى ذكر أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم، فقال: {عَفَا الله عَنْهَا} يعني عما ظهر عند تلك السؤالات مما يسؤكم ويثقل ويشق في التكليف عليكم.الثالث: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها في الآية {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وهذا ضعيف لأن الكلام إذا استقام من غير تغيير النظم لم يجز المصير إلى التقديم والتأخير، وعلى هذا الوجه فقوله: {عَفَا الله عَنْهَا} أي أمسك عنها وكف عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: «عفوت لكم عن صدقة الخيل، والرقيق» أي خففت عنكم بإسقاطها.ثم قال تعالى: {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} وهذه الآية تدل على أن المراد من قوله عفا الله عنها ما ذكرناه في الوجه الأول. اهـ..قال ابن عطية: وقوله تعالى: {عفا الله عنها} تركها ولم يعرف بها، وهذه اللفظة التي هي {عفا}، تؤيد أن الأشياء التي هي في تكليفات الشرع، وينظر إلى ذلك قول النبي عليه السلام إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل، و{غفور حليم} صفتان تناسب العفو وترك المباحثة والسماحة في الأمور. اهـ..قال ابن عاشور: وقوله: {عفا الله عنها} يحتمل أنّه تقرير لمضمون قوله: {وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبدَ لكم}، أي أنّ الله نهاكم عن المسألة وعفا عنكم أن تسألوا حين ينزّل القرآن.وهذا أظهر لعوذ الضمير إلى أقرب مذكور باعتبار تقييده {حين ينزّل القرآن}.ويحتمل أن يكون إخبارًا عن عفوه عمّا سلف من إكثار المسائل وإحفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيها لأنّ ذلك لا يناسب ما يجب من توقيره. اهـ..قال ابن عطية: قرأ عامة الناس {قد سَألها} بفتح السين، وقرأ إبراهيم النخعي {قد سِألها} بكسر السين، والمراد بهذه القراءة الإمالة، وذلك على لغة من قالت سلت تسأل، وحكي عن العرب هما يتساولان، فهذا يعطي هذه اللغة هي من الواو لا من الهمزة فالإمالة إنما أريدت وساغ ذلك لانكسار ما قبل اللام في سلت كما جاءت الإمالة في خاف لمجيء الكسرة في خاء خفت، ومعنى الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنيتات وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألتها قبلكم الأمم ثم كفروا بها قال الطبري كقوم صالح في سؤالهم الناقة وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدة. قال السدي: كسؤال قريش أن يجعل الله له لهم الصفا ذهبًا.قال القاضي أبو محمد: وإنما يتجه في قريش مثالًا سؤالهم آية، فلما شق لهم القمر كفروا، وهذا المعنى إنما يقال لمن سأل النبي عليه السلام أين ناقتي؟ وكما قال له الأعرابي ما في بطن ناقتي هذه؟ فأما من سأله عن الحج أفي كل عام هو؟ فلا يفسر قوله قد سألها قوم الآية بهذه الأمثلة بل بأن الأمم قديمًا طلبت التعمق في الدين من أنبيائها ثم لم تف لما كلفت. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري في الآية: قال عليه الرحمة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)}.إذا أسبل عليكم ستر اللطف فلا تتعرضوا لعلم أُخْفِيَ عنكم، فيتنغَص (بالتج...)- عليكم- عَيْشُكم.ويقال لا تتعرضوا للوقوف على محل الأكابر- حيث لا تستوجبون ذلك- فيسوءكم تقاصرُ رتبتك.ويقال إذا بدا من الإعراض علم فاطلبوا له عندكم وجهًا من التفال ولا تطلبوا أسرار الباري، واركنوا إلى روْح المنى في استدفاع ما ظلكم ولا تبحثوا عن سر ذلك وراعوا الأمر مجملًا. اهـ..من فوائد الخازن في الآية: قال عليه الرحمة:قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}.اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فروي عن أنس بن مالك قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعنا مثلها قط فقال «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا» قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين فقال رجل: من أبي؟ فقال فلان فنزلت هذه الآية {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} وفي رواية أخرى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فقام على المنبر فذكر الساعة فذكر فيها أمورًا عظامًا ثم قال: من أحب أن يسألني عن شيء فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي فأكثر الناس البكاء وأكثر أن يقول سلوا فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال: من أبي؟ فقال: أبوك حذافة.
|